الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939
كانت ثورة عام 1936 حدثًا محوريًا في القرن العشرين بالنسبة للكثيرين. كانت فلسطين رمزًا لصفات شعبها المميزة - الاستعداد للتضحية من أجل الصالح العام، والعزم و المثابرة في مواجهة الصعوبات الجسيمة، والإصرار الثابت على الحقوق الوطنية.
خلال ذروة الثورة، نجح الثوار الفلسطينيون في السيطرة على كامل الريف الفلسطيني ومختلف المدن الرئيسية، مما أجبر القوات البريطانية على الانسحاب من العديد من المعاقل الاستراتيجية.
أسست الثورة الفلسطينية الكبرى نموذجًا عالميًا وحققت إنجازًا تاريخيًا تمثل في أطول إضراب مستمر من قبل شعب بأكمله في التاريخ الحديث، استمر لمدة مائة وثمانية وسبعين يومًا. لو بقي النضال مقتصراً على مقاومة الشعب الفلسطيني للاستعمار البريطاني، فإنه من المرجّح أن حققت فلسطين استقلالها وحريتها على إثر هذه الثورة. وعند مقارنة هذه الثورة بثورات الدول الأخرى التي حققت استقلالها، يصبح من الواضح أن تأثير الصهيونية الكبير داخل فلسطين وبريطانيا ودول أخرى كبرى زاد الوضع تعقيداً.
تنقسم الثورة الفلسطينية الكبرى إلى فترتين، منفصلتين بفترة توقف اتخذت طابع الهدنة المسلحة. استمرت المرحلة الأولى من الثورة من أبريل حتى أكتوبر 1936.
بعد استشهاد عز الدين القسّام، اختارت منظمة الجهاد (القساميون) قائدًا جديدًا، الشيخ فرحان السعدي. على الرغم من بلوغه الخامسة والسبعين، بقي مقاتلًا صلبًا وملتزمًا يشتهر بدقته في الاستهداف.
تضمنت أحداث الثورة خلال المرحلة الأولى معركة باب الواد على طريق القدس-يافا، وهجوم على سينما إديسون في القدس، وتفجير سيارة مفتش شرطة بريطاني في المدينة، واغتيال ضابطي طيران بريطانيين اثنين.
انتشرت الثورة في جميع أنحاء فلسطين، وعطل الثوار طرق النقل واشتبكوا مع القوات البريطانية وفجروا خطوط الأنابيب النفطية وأغلقوا خطوط السكك الحديدية لقطع سلاسل الإمداد العدو. ونتيجة لذلك، تم نشر 20,000 جندي بريطاني إضافي في المنطقة. في 30 سبتمبر 1936، فرضت السلطات الانتدابية الحكم العسكري، مع تشديد إجراءاتها القمعية والوحشية.
سادت أجواء من الخوف المتزايد والتوتر في المنطقة. بعد ذلك، فرضت الحكومة حظر التجول في يافا، بما في ذلك تل أبيب، وأعلنت حالة الطوارئ في جميع أنحاء فلسطين. بعد ستة أشهر من الإضراب، تم إنهاء الإضراب، مما أنهى المرحلة الأولى للثورة.
بعدما فشلت المحاولات السياسية لكبح الهجرة اليهودية والمفاوضات لتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، بدأت المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية الكبرى في 26 سبتمبر 1937. وقد افتتحت هذه المرحلة باغتيال جماعة القسام لويس ييلاند أندروز، حاكم كتيبة الجليل. وأدى هذا الاغتيال إلى صدمة المسؤولين البريطانيين؛ إذ أنها كانت أول عملية اغتيال لسياسي بارز وبالتالي كان ذلك إعلان واضح عن التمرد ضد الاحتلال البريطاني.
على عكس توقعات البريطانيين واليهود، عادت الورة بقوة وأصبحت وذات تأثير بعيد المدى.
قاد الفلاحون الفلسطينيون الثوار ونفذوا عمليات معقدة وشاقة ضد الأهداف العسكرية البريطانية والصهيونية. وكان هؤلاء الفلاحون مسلحين بخبرة واسعة من الثورات السابقة التي قادوها ضد المحتلين، أسعفهم في هذا شجاعتهم الطبيعية، نتيجة لتربيتهم الريفية الصعبة، التي منحتهم الثقة.
استؤنفت الأنشطة الجهادية على نطاق واسع في جميع أنحاء فلسطين. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها الجيش البريطاني لتدمير الثورة بجميع الوسائل الممكنة، إلا أنها استمرت، مدفوعة بالروح الوطنية السائدة في فلسطين في ذلك الوقت.
تم تأسيس "اللجنة المركزية للجهاد" في سوريا ولبنان تحت إشراف الحاج أمين. وتم تكليف محمد عزت دروزة بقيادة العمليات في دمشق. وركزت اللجنة بشكل أساسي على تنظيم الثورة وضمان إمدادها باحتياجاتها اللوجستية ومساعدة المصابين.
في فلسطين، تولى الفلسطينيون زمام الثورة، وأظهروا مهارات بارعة للغاية. ففي صيف عام 1938، بلغ تأثير الثورة ذروته، ووقعت مناطق واسعة تحت سيطرتها، خاصة في شمال ووسط فلسطين. تمكن الثوار ببراعة من شن حرب شرسة وتأسيس هياكل تنظيمية قوية. حيث أنشئوا المحاكم لفض النزاعات وفرض عقوبات شديدة على الوسطاء والجواسيس والعملاء.
بالإضافة إلى ذلك، اكتسب قادة الثوار مكانة اجتماعية بارزة في مناطقهم. كلما دخل قائد إلى قرية، توافد الناس من القرى المجاورة والوفود من المدن القريبة لتقديم احترامهم، وتقام الولائم والاحتفالات، وتُغنى الأناشيد والزغاريد للاحتفال بوصول القائد.
زاد عدد الثوار إلى ما يقرب من 10,000، ومع ذلك، كان الجزء الأصغر - أقل من 3,000 - ملتزمًا بعمق بالقضية. ومن بين هؤلاء الثوار الملتزمين، كان 1,000 يعملون داخل المدن، بينما كان البقية من الفلاحين الذين انضموا إلى القتال إلى جانب رفاقهم عند الحاجة.
اشتدت الثورة بشطل كبير لدرجة أن وزير الاستعمار البريطاني وصف فلسطين بأنها "أصعب بلد في العالم" وبأن مهمة المفوض العليا والقائد العام للقوات البريطانية "أصعب مهمة واجهتها السلطات البريطانية في أي بلد آخر بعد الحرب العالمية الأولى".
في صيف عام 1938، واجهت السلطات البريطانية ووحدات المخابرات أصعب فترة لها، حيث تم تعطيل جواسيسهم في معظم المناطق الفلسطينية. وكان من الصعب بالنسبة للسلطات البريطانية التفريق بين الثوار وغير المقاتلين. كان من المعتاد أن يعتبر أي شخص يرتدي الكوفية والخرقة، التغطية الرأسية التقليدية للفلاحين، متمردًا وبالتالي يتم استهدافه من قبل القوات البريطانية.
فيما يتعلق بالصعوبات المتزايدة التي واجهتها البريطانيون في تحديد خصومهم، أصدر مجلس قيادة الثورة توجيهاً بأن يستبدل الرجال الفلسطينيون الطربوش، وهو غطاء الرأس الدارج لسكان المدن، بالكوفية والعقال كرمز للدعم الكامل للثورة. عندما تلقى الرجال الفلسطينيون هذا الأمر، استجابوا على الفور، مما أدى إلى القضاء بشكل فعال على أي وسيلة للتمييز بين الثوار والفلسطينيين الآخرين. ونتيجة لذلك، فقد اختفى الطربوش، التقليد القديم بين سكان المدن الفلسطينية، فجأة من المظهر اليومي. وأندهشت السلطات البريطانية من السرعة التي تمكنت قيادة الثورية الفلسطينية فيها تغيير جانب عميق الجذور من مظهر مواطنيها.
شن الثوار هجومًا عنيفًا على الجنود البريطانيين وشرطة القدس. وفي إنجاز كبير، حرر الثوار الفلسطينيون البلدة القديمة في القدس من الاحتلال البريطاني في سبتمبر 1938. على الرغم من أن الطائرات البريطانية قامت بإلقاء منشورات موقعة من قبل القائد العسكري البريطاني، تحث جميع سكان البلدة القديمة على تسليم أسلحتهم والبقاء في الداخل خلال الثورة، إلا أن المدينة بقيت خارجة عن سيطرة البريطانيين لأكثر من أسبوع.
وجدت المدينة نفسها محاصرة بحلقة قوية من الهجمات العسكرية البريطانية. حاول البريطانيون في البداية استعادة المدينة ولكنهم اضطروا للانسحاب لمدة ثلاثة أيام قبل أن يستعيدوها عبر القصف الجوي وإطلاق النار بالبنادق الرشاشة. وبعد ثلاثة أيام من المقاومة الشرسة من قبل الثوار، نجح البريطانيون في استعادة المدينة.
في ذروة الثورة في عام 1938، حكم الثوار الفلسطينيون عدة مدن، وهو إنجاز يشبه الاحتفاظ بالبلدة القديمة في القدس.
مواجهين تحديًا كبيرًا، أرسلت السلطات البريطانية تعزيزات عسكرية كبيرة بقيادة بعض أبرز الشخصيات العسكرية البريطانية، بما في ذلك جون ديل وأرشيبالد وافل وروبرت هاينينج وبرنارد مونتغمري.
باستخدام استراتيجية وحشية محددة بالتدمير والعقوبة الجماعية، استعاد البريطانيون بشكل منهجي القرى الفلسطينية، باستخدام إحدى أقوى ترسانات عسكرية في العالم - مجهزة بأحدث الطائرات والدبابات والمدافع والأسلحة الأخرى. استمرت هذه الحملة الوحشية من أكتوبر 1938 حتى أبريل 1939.
بحلول نوفمبر 1939، أجرت القوات البريطانية 2,088 غزوًا وتفتيشًا للقرى الفلسطينية. وفي المتوسط، كانت كل قرية قد تعرضت لاجتياحين إثنين، نظرًا إلى وجود نحو ألف قرية في فلسطين آنذاك.
ونتيجة لذلك، عانت الثورة من خسائر كبيرة واستشهد العديد من قادتها، بينما اضطر آخرون للفرار. بحلول نهاية عام 1939، تلاشت الثورة. ومع ذلك، في بعض الجيوب، استمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939.
وعلى الرغم من أن البريطانيين شعروا بعظمة الصراع المقبل مع الألمان ورغبتهم في إنهاء "التمرد" في فلسطين، فإنهم قاموا بمسح واسع - ونهائي - للقرى والمدن الفلسطينية واستعادة معظم المواقع المحررة.
يرى غسان كنفاني عاملين مهمين ومترابطين لعبا دورًا في تقويض زخم الثورة، بالإضافة إلى تلك المذكورة أعلاه: العامل الأول هو موقف إمارة شرقي الأردن، ممثلاً بالنظام السلبي بقيادة الأمير عبد الله. عارض عبد الله بنشاط الثورة، وأغلق الطرق وقيد حركة قادة فلسطينيين داخل الأردن. وبالتعاون مع الفصائل البريطانية والصهيونية، شكل النظام "فصائل السلام" لقمع الثورة، مما زاد من الإجراءات الداخلية المضادة للثورة. في الوقت نفسه، عمل العراق والسعودية على توجيه جهودهما باتجاه الأجندة البريطانية للقضاء على الثورة، لكن تأثيرهم على الجماهير كان محدودًا.
ثانيًا، واجهت الثورة معارضة من وكلاء مضادين للثورة متحالفين مع المصالح البريطانية والصهيونية. حزب الدفاع، بقيادة راغب النشاشيبي، الذي مثل النظام الأردني ضمن الحركة القومية الفلسطينية. كان يدافع بشكل أساسي عن مصالح الطبقة البورجوازية الناشئة، مدركًا أن نموها يعتمد على التوافق مع كل من الاستعمار البريطاني والاقتصاد الفلسطيني الذي يسيطر عليه الصهاينة.
وفقًا لمعظم قادتها، انتهت الثورة في سبتمبر 1939.
من كتاب "طريق الوهم: بين الخلاص اليهودي والنكبة الفلسطينية"